الرد على ريتشارد دوكنز "وهم الإله"
عندما بدأت في قراءة كتاب "وهم الإله" للمؤلف ريتشارد دوكينز، كنت أتوقع أن أواجه أسباب جديدة طرحت لجعل قضية الالحاد العالمية قضية أقوى، لكن في الحقيقة فقد خاب أملي. ما قرأته كان مجرد أدلة وحجج قديمة أكل عليها الدهر وشرب وغير متماسكة جعلتني أدرك أن دوكينز لا يعلم في الفلسفة شيئا. في ضوء ذلك أعتقد أنه سيكون من المفيد الرد على أهم حججه على النحو التالي:
1. الرد على ما جعله داوكينز دليله الرئيسي.
2. الرد على ما يعتبره الفلاسفة أهم أدلته.
الرد على ما جعله داوكينز دليله الرئيسي
وردا على ما يعتبره داوكينز دليله الرئيسي وهذا على صفحات كتابه 157 - 158 فيلخص ما يسميه هو " الدليل الرئيسي لكتابي":
1. من أكبر التحديات التي تواجه الفكر البشري هي تفسير قضية التصميم المعقدة وغير المحتملة في بدء الكون.
2. السبب الطبيعي هو أن ننسب ظهور التصميم للتصميم في حد ذاته.
3. هذا السبب يعتبر خطأ، لأن فرضية المصمم ما إن تطرح مشكلة أكبر ألا وهي السؤال: من الذي صمم المصمم؟
4. التفسير الأفضل والأقوى هو نظرية التطور الداروينية عن طريق الانتقاء الطبيعي، لكن لا نملك تفسيرا في الفيزياء يعادلها.
5. لا ينبغي لنا أن نفقد الأمل في التوصل الى تفسير أفضل في الفيزياء، تفسير لا تقل قوته عن الداروينية في لعلم الأحياء.
إذن الله في الغالب لا وجود له.
ملاحظة:
قبل أن أذهب إلى أفكار داوكينز الرئيسية، أود أن مناقشة استنتاجه التالي " إذن الله في الغالب لا وجود له " وهنا أريد أن أسأل كيف أمكن له أن يستنتج أن الله غير موجود من البيانات المذكورة أعلاه؟ يبدو لي بأنه يقفز إلى استنتاجات بدون دليل وهذا يبين هشاشة حججه. يبدو لي أن الوهم الوحيد هو قناعة داوكينز أن حججه في رفض وجود الله قوية.
لو تمكنا من استخلاص أي شيء من أدلة داوكينز سيكون المعنى في أننا لا ينبغي أن نستنتج أن الله موجود على أساس تصميم الكون. حتى ولو كان ذلك صحيحا فهذا لا يعني أن الله غير موجود، ونحن نعتقد أن في وجود الله من حجج كثيرة أخرى والتي تشمل:
- الدليل من الأخلاق
- معجزة القرآن الكريم
- الدليل الكوني
- دليل التجربة الشخصية
- دليل الوعي
إذا قبلنا جميع مقولات داوكينز فإن الأمر لن يكون كافيا لرفض فكرة أن الله موجود، وبالتأكيد فهي لا تعطي أدلة مقنعة أو إيجابية للإلحاد. ومع ذلك فإن العديد من المقولات ليست صحيحة. دعونا نأخذ مقولاته والرد عليها واحدة تلو الأخرى.
المقولة 1: من أكبر التحديات التي تواجه الفكر البشري هي تفسير قضية التصميم المعقدة وغير المحتملة في بدء الكون.
أنا أعتقد أن أكبر تحدي بالنسبة لدوكينز هو نفي وجود الله بل في الواقع التحدي الأكبر هو أن يثبت صحة فرضه للإلحاد. بالنسبة لشخص فطن ويفكر بعمق في الأشياء، أعتقد أن أبسط وأفضل وأقوى تفسير على الاطلاق هو وجود مصمم خارق. والنقطة التالية سأثبت لماذا من المنطقي أن يوجد الله لكي يصمم الكون.
المقولة 2: السبب الطبيعي هو أن ننسب ظهور التصميم للتصميم في حد ذاته.
هذه ليست أسباب طبيعية ولكن نتيجة منطقية مستخلصة من برهان "النظم" أي دقة الكون وهي من الشروط الأولية للكون. اسمحوا لي أن أبدأ من خلال تقديم أفكار أساسية لهذه الحجة:
- دقة الكون تسمح بوجود الحياة وهذا راجع إما إلى الضرورة المادية أو العشوائية أو التصميم.
- دقة الكون لا ترجع إلى الضرورة المادية ولا العشوائية.
- إذن فإن ذلك يرجع إلى التصميم.
توضيح الفرضية الأولى:
وجود كون يسمح بالحياة للإنسان يرجع إلى شروط لابد وأنها قد جُعلت دقيقة وتم ضبطها لدرجة تصعب على بعض الأفهام. ولنأخذ الأمثلة التالية بعين الاعتبار:
• قوة الجاذبية والقوة النووية الضعيفة: يقول الفيزيائي ب.س.و. ديفيس بأن أي تغيير طفيف في قوة الجاذبية أو من القوة النووية الضعيفة من شأنه أن يمنع كونا يسمح بوجودنا. ديفيس يبرهن بأن هذا التغيير طفيف ودقيق جدا كدقة جزء واحد في 10 قوة 100. (أي 1 وعلى يمينه مئة صفر)
• حجم فضاء الطور للأكوان الممكنة: روجر بينروز من جامعة أكسفورد يوضح أن الخالق لابد أن يكون لديه حجم صغير جدا من " فضاء الطور للأكوان الممكنة" لخلق كون يشابه كوننا. هذا علم تقني وعملي جدا ولكن ينبغي لنا أن نطرح هذا السؤال: ما هو مقدار هذا الحجم؟ يقول بينروز أن الحجم هو 1/10 قوة X (يعني أس مجهول) أي 10 قوة 123. إذن فالدقة المطلوبة لصنع كون يشابه كوننا هو أكبر بكثير من الدقة التي تتطلب للضغط على بروتون واحد إذا كان الكون عبارة عن لوحة رمي السهام !
في ضوء ما سبق، لا يوجد سوى ثلاث تفسيرات محتملة لدقة الكون و"النظم" المذكورة أعلاه:
- الضرورة المادية
- العشوائية
- التصميم
لماذا لا يمكن أن يكون ضرورة مادية؟
هذا الخيار غير عقلاني فليس هناك أي سبب مادي يفسر لماذا هذه الثوابت والكميات لديها هذه القيم بعينها. كما يقول ب.س.و. ديفيس: " حتى لو كانت قوانين الفيزياء فريدة من نوعها فهذا لا يعني أن الكون المادي بذاته هو فريد من نوعه ... لا بد وأن الظروف الأولية الكونية قد عززت وزادت من قوانين الفيزياء ... لا يوجد شيء في الأفكار الحالية في الوقت الحاضر فيما يخص 'قوانين الظروف الأولية" تشير إلى أن توافقها مع قوانين الفيزياء قد يعني ضمنيا التفرد. على العكس من ذلك ... على ما يبدو أن الكون المادي ليس من الضروري أن يكون على ما هو عليه الآن، فقد كان يمكن أن يكون على خلاف هذا الشكل".
وبالإضافة إلى ذلك، إذا تبنى أي شخص نظرة أن دقة الكون التي تسمح بحياة الإنسان ترجع إلى الضرورة المادية، فهذا يعني أنه من المستحيل أن يكون الكون غير صالح للحياة ! لكن علماء الفيزياء يؤكدون أن الكون الذي نعيش فيه ليس بالضرورة أن يكون على الطريقة التي هو عليها الآن، وكان يمكن أن توجد هناك أكوان أخرى كثيرة لا تسمح بالحياة البشرية.
لماذا لا يمكن أن يكون عشوائيا؟
بعض الناس الذين لا يدركون استحالة أن يأتي الكون بالصدفة إلى حيز الوجود ويقولون: "يمكن أن يكون قد أتى بالصدفة!" وبالرغم من ذلك هل يمكن لهم أن يفسروا لنا كيف وجدوا فيلا ينام في المرآب ليلا؟ أو يفسروا لنا كيف وجدوا طائرة من نوع 747 متوقفة في حديقة منزلهم؟ حتى بعد ظهور استحالة وجهة نظرهم فالبعض ما يزالون يتمسكون بالنظرية القائلة بأن الكون يمكن له أن يوجد نتيجة للصدفة. وردا على هذا أود أن أقول بأن الأمر لا يقتصر فقط على الصدفة بل يوجد هناك شيء يقوله المنظرون مثل وليام دمبسكي وهو ما يدعى "الاحتمال المحدد أو المقيد".
الاحتمال المحدد هو الاحتمال الذي يتوافق مع نموذج مستقل. لتوضيح هذا أضرب مثالا: تخيل أن وضعنا قردا في غرفة لمدة أربع وعشرين ساعة لكي يكتب على الكمبيوتر الخاص بك. وعند دخولك للغرفة في الصباح وجدته قد كتب مقطوعة شعرية (سوناتا) شكسبير "كن أو لا تكن". القرد قد كتب بأعجوبة جزءا من مسرحية شكسبير! ألم تكن تتوقع أنه سيكتب كلمات عشوائية مثل "بيت" "سيارة" "تفاحة" رغم أنها غير محتملة ... ولكن في هذه الحالة لم نجده قد كتب كلمات إنجليزية فحسب، لكن المشكل أننا وجدناه قد كتب مقطوعة شعرية متطابقة مع قواعد اللغة الإنجليزية! وقبول هذه ليس سوى نتيجة للصدفة العمياء فهذا الأمر غير عقلاني بل ومخالف للتفكير الصحيح، ولا يمكن لأي شخص أن يدعي صدق هذا الرأي. لتمثيل هذا على أرض الواقع ، حسب علماء الرياضيات البريطانيون في كل لحظة ممكنة احتمال كتابة القرد على الكمبيوتر، فوجدوا أن الأمر سيستغرق 28 مليار سنة لإنتاج المقطوعة الشعرية "كن أو لا تكن" لشكسبير!! لذلك قبول فرضية الصدفة والعشوائية هو بمثابة رفض وجود الكون الخاصة بنا أصلا.
بما أن القولان الأول والثاني صحيحان، يترتب على ذلك وجود تصميم خارق وهذا هو التفسير الأكثر منطقية لدقة الكون الذي يسمح للحياة البشرية عليه.
المقولة 3: هذا السبب يعتبر خطأ، لأن فرضية المصمم ما إن تطرح مشكلة أكبر ألا وهي السؤال: من الذي صمم المصمم؟
هذه المقولة التي تعتبر مخالفة لحجة التصميم خاطئة لسببين رئيسيين هما:
أولا: أي شخص لديه فهم أساسي لمبادئ فلسفة العلوم يدرك أن في الاستدلال على أفضل تفسير خطأ، لأن أفضل تفسير لا يحتاج إلى تفسير وأن اعتراض دوكنز في غير محله! المثال التالي سيوضح هذه الفكرة. تخيل 500 سنة من الآن، وجاء مجموعة من علماء الآثار وبدؤوا بالحفر في متنزه (هايد بارك) في لندن لكي يعثروا على أجزاء وقطع من سيارة وحافلة. عند ذلك نتقبل استنتاجهم في أن هذه الاكتشافات لم تكن نتيجة أي عملية بيولوجية ولكن كانت لحضارة من الحضارات. لكن إذا اعترض بعض المتشككين وقالوا بأننا لا ينبغي لنا أن نستنتج هذه الاستنتاجات، لأننا لا نعرف شيئا عن هذه الحضارة وكيف كانوا يعيشون فيها ومن الذي خلقهم، فهل هذا الاعتراض يعني أن استنتاجات علماء الآثار غير صحيح؟ بالطبع لا !
ثانيا: إذا أخذنا اعتراض دوكنز هذا على محمل الجد فقد هدمنا أسس العلم والفلسفة نفسها. إذا كان علينا أن نفسر الافتراضات الأساسية للعلوم على سبيل المثال أن العالم الخارجي موجود، في نظركم ما هو مستوانا اليوم في التقدم العلمي ؟ وبالإضافة إلى ذلك إذا كان علينا أن نطبق هذا النوع من الأسئلة على كل محاولة لتفسير التفسير، فإننا سننتهي إلى سلسلة لانهائية من التفسيرات. وهذه السلسلة اللانهائية ستهدم كل الأهداف العلمية في المقام الأول التي من شأنها أن تقدم تفسيرا !
ملاحظة حول رفض الخوارق:
دوكنز كذلك يرفض مصمما خارقا لأنه يعتقد بأن الأمر يفتقر لقوة تفسيرية كما قال سابقا، وبعبارة أخرى، لم يتم إحراز أي تقدم بشرح دقة الكون. هو يقدم هذا الاعتراض لأنه يشعر أن المصمم الخارق هو مجرد معقد مثله مثل التصميم. لكن اعتراض داوكينز يطرح إشكالا لأنه يفترض أن المصمم الخارق معقد بقدر تعقيد الكون. لكن هذ المصمم الخارق (الله عز وجل) هو من أبسط المفاهيم التي يفهمها الجميع. وهذا الرأي هو ما يقوله العديد من الفلاسفة بما في ذلك الملحد الشهير الذي تحول إلى مؤمن الأستاذ أنتوني فلو.
افتراض دوكنز الآخر هو أن الله مكون من أجزاء كثيرة، ولكن في الحقيقة الله تعالى غير مادي ومتعال وواحد أحد. لمجرد أن الله يمكن أن يفعل أشياء معقدة لا يجعله معقدا، يبدو لي أن دوكنز يخلط بين القدرة والطبيعة. وبعبارة أخرى، لمجرد أن الله يمكن أن يفعل أشياء معقدة مثل خلق الكون لا يجعله منه معقدا بالضرورة. وبالتالي فإنه من المعقول أن الله هو أبسط و أفضل تفسير.
المقولة 4: التفسير الأفضل والأقوى هو نظرية التطور الداروينية عن طريق الانتقاء الطبيعي، لكن لا نملك تفسيرا في الفيزياء يعادلها.
هذه الأطروحة غير صحيحة بتاتا للأسباب التالية:
1. التطور لم يصبح دليلا حتى
2. التطور مستند على احتمالات لا تحصى
3. التطور أمر مستحيل لأننا لم نمضي ما يكفي من الوقت على الأرض حتى الآن
اسمحوا لي أن نتوسع في هذه النقاط:
1. التطور لم يصبح دليلا حتى
فيما يتعلق بوجود الله فالتطور ليس دليلا حتى لكي ينقض وجوده بل هو بعيد مليارات السنين عن ذلك. دليل النظم ودقة الكون المذكورة أعلاه يشير إلى الظروف الأولية للكون والثوابت العديدة التي تسبق أي عملية تطورية تاريخيا ، ببساطة التطور ليس له دليل يدعمه.
2. التطور مستند على احتمالات لا تحصى
الاحتمالات التي تعترض على تشكل الجينوم البشري بعشوائية لا تعد ولا تحصى. إن احتمال تجميع الجينوم هو ما بين 4 قوة -180 إلى 4 قوة -110000 و 4 قوة -360 إلى 4 قوة -110000. هذه الأرقام ترفض احتمالية وجود الأنواع مثل الانسان العاقل (هوموسايبين). وإذا كان على أي شخص أن يقبل التطور عن طريق الصدفة، فيتوجب عليه الايمان بوجود معجزات وهذه الأرقام مرتفعة جدا جدا ! ولذلك في هذه الحالة التطور نفسه يثبت وجود الله!
3. التطور أمر مستحيل لأننا لم نمضي ما يكفي من الوقت على الأرض حتى الآن
وفقا للعالمين ج. د. بارو وف.د. تيبلر، فإن احتمالات تشكل مورثة أو جينة واحدة هي ما بين 4 قوة -180 إلى 4 قوة -360. والاستنتاجات ببساطة تقول بأنه لم يكن هناك ما يكفي من الوقت منذ تشكيل الأرض لكي تتشكل عدد من مجموعات قاعدة نوكليوتيدية التي يمكن أن تقارن ولو من بعيد إلى هذه الأرقام !
المقولة 5: لا ينبغي لنا أن نفقد الأمل في التوصل الى تفسير أفضل في الفيزياء، تفسير لا تقل قوته عن الداروينية في لعلم الأحياء.
دوكنز أساسا يقول بأننا نملك تفسيرا طبيعيا للتصميم الظاهر في الأنواع وأننا لا نملك تفسيرا مماثلا للفيزياء، إذن علينا أن ننتظر. أليس هذا ما يسمى بالإيمان الأعمى؟ هذه الأطروحة تدعي استعمال العلم (النزعة العلمية) كوسيلة وحيدة لإثبات الحقائق أو الاستنتاجات السليمة. لماذا يريد منا أن ننتظر الحصول على تفسير طبيعي؟ تبني داوكينز لهذا وادعاؤه استعمال العلم كطريقة وحيدة لإثبات الوقائع ليست صحيحا للأسباب التالية:
• النزعة العلمية: هي التي ترى أنه ينبغي لنا أن نصدق ما يمكن اثباته علميا فقط وهو هزيمة للذات. النزعة العلمية تدعي أن أي اقتراح أو قول غير صحيح إلا إذا أثبت علميا. ومع ذلك فإن الأطروحة السابقة غير مثبتة علميا. لذلك فطبقا لهذا الادعاء، الادعاء في حد ذاته غير صحيح وبالتالي النزعة العلمية تهدم نفسها بنفسها.
• النزعة العلمية: لا يمكن لها أن تثبت الحقائق اللازمة مثل الرياضيات والمنطق. على سبيل المثال: "إذا كانت (ع) تعني (س) و (ص) فإن (س) تعني (ص)" و "3 + 3 = 6" فهذه حقائق لازمة ضرورية وليست مجرد تعميمات تجريبية. في الحقيقة النزعة العلمية تتطلب هذه الحقائق اللازمة، ولكن لا يمكن اثباتها، وأية محاولة للقيام بذلك ستكون بمثابة من يجادل في حلقة مفرغة.
• النزعة العلمية: هذه النزعة تقتصر في نطاق فقط لأنه لا يمكن معالجة الوقائع السياسية أو الأخلاقية. النزعة العلمية لا يمكن لها أن توفر سوى "الرفاهية والهناء" فيما يخص الأخلاق كمعيار للحقائق الأخلاقية. وعلى كل حال فإن المغتصبين والكذابين واللصوص جميعا يعشون في "رفاهية وهناء " بسبب أفعالهم، وبالتالي فإن المشهد الأخلاقي، حسب تعريف العلم، مليء بالناس الخيرين والأشرار ومن وجهة النظر هذه فإن الأخلاق ليس له معنى.
نستخلص مما سبق أن حجة دوكنز الأساسية والمركزية قد فشلت وأخطأت وبذلك أحرجت المجتمع العلمي، والفيلسوف الملحد مايكل روز يصرح قائلا: "خلافا للملحدين الجدد، أود تبنى دراسة على محمل الجد. كنت قد كتبت سابقا بأن كتاب دوكنز (وهم الله) جعلني أخجل من كوني ملحدا وأنا أعني ما قلته. في محاولة لفهم كيفية أن الله قد لا يحتاج إلى أي سبب، مطالبة فالمسيحيون يقولون بأن الله موجود بالضرورة. بذلت جهدي لمحاولة فهم ما يعنيه ذلك. داوكينز والشركة جاهلون بخصوص هذه المطالبات ويحتقرون أولئك الذين يحاولون حتى فهمها ناهيك عن تصديقهم. وهكذا مثل الطلاب الجامعيين في السنة الأولى يمكن أن يذهب ويصرخ في جميع الأنحاء بصوت عال، "من الذي خلق الله؟" كما لو أنه قد قام باكتشاف عظيم في الفلسفة ".
الرد على ما يعتبره الفلاسفة أهم أدلته
يقول المحاضر في جامعة ييل والفيلسوف غ.هـ. غرانسل بأن أقوى دليل لدوكنز موجود في الصفحة 55:
"إن الكون بوجود مشرف خارق ومبدع سيكون مختلفا جدا عن الكون الذي لا يوجد فيه ذلك". ويمكن تلخيص حجة داوكينز على النحو التالي:
1. الكون الذي خلقه الله سيكون مختلفا عن ذلك الذي أوجدته الطبيعة
2. الكون الذي نعيش فيه يناسبه أن يكون قد تم إنشاؤه من قبل الطبيعة
3. ولذلك فإن الكون الذي نعيش من المحتمل أنه تم إنشاؤه من قبل الطبيعة.
أنا أرى أن حجة داوكينز بعيدة كل البعد عن الحقيقة، وهذا يرجع إلى أن الكون الذي نعيش فيه يجعل الأمر أكثر منطقية في أن الله هو من أوجده وذلك للأسباب التالية:
1. الكون منظم وجاهز للتحليل العقلاني
لو لم يكن الله موجودا لما كان الكون منظما بهذا النظام، ولما كان مضبطا بهذه الدقة التي تسمح للحياة البشرية عليه. يقول الأستاذ روجر بنروز: "هناك منطق أكيد فيما أود قوله إن الكون له هدف ولم يأتي من قبيل الصدفة ... ولا أعتقد أن هذه طريقة مفيدة في النظر للكون".
وبالإضافة إلى ذلك، فإن حقيقة تمكننا من مراقبة وأداء التحليل العقلي على النماذج التي ندركها في هذا الكون تجعل من الأمر أكثر منطقية بوجود الله، لأنه الكون الذي لو صنع من قبل الطبيعة سيكون كما يتوقع أكثر فوضوية. هذا لا يعني أن الكون من دون إله لا يمكن أن يكون منظما، إلا أنه على الأرجح أن الله قد خلق كونا منظما وبما أن الكون الذي نعيش فيه هو يجعل من المنطقي أن يوجد الله الذي يعني وجوده تناسبا مع كوننا.
2. الكون به كائنات واعية وعاقلة
الكون الذي يحتوي على الوعي والإدراك يجعل من المنطقي وجود الله أما الكون الذي من دون إله سيكون مختلفا جدا عن هذا الذي نعيش فيه. وللتوضيح، البشر يمرون بتجارب طوال وقت، هذه المقالة التي تقرأها الآن تعتبر تجربة وحتى حديثك عن تجربتك تعتبر تجربة أيضا. لكن الحقيقة المطلقة التي ندركها من أي تجربة هي تلك التجربة التي يمر عليها الشخص بنفسه ويجربها. عندما ندرك أن هناك شخصا ما وهو "أنا" أو "لي" أو "ملكي" سنواجه سرا غامضا. الفيلسوف روي ابراهام فارجيس كتب: "على عكس ديكارت" أنا موجود إذن أنا أفكر" ... من هو "أنا "؟ "أين" هو؟ كيف وصل الأمر إلى أن تكون؟ فالذات ليست مجرد شيئا ماديا ". الذات ليست شيئا ماديا إذا هي ليست محتواة في أي خلية أو بنية حيوية (بيولوجية). الحقيقة البديهية التي لا يجادل فيها أي أحد هي أننا جميعا مدركون وواعون، ولكننا لا نستطيع أن نفسر أو نشرح هذا الادراك والوعي. الشيء الوحيد الذي نحن متأكدون منه هو أنه لا يمكن تفسير النفس والذات بيولوجيا أو كيميائيا. السبب الرئيسي في ذلك هو أن العلم لم يكتشف الذات بل العكس من ذلك، إذا حاول العلم تفسير حقيقة الذات والنفس سيكون بمثابة الدوران في حلقة مفرغة! حتى العلماء يدركون هذا، و الفيزيائي جيرالد شرويدر يشير إلى أنه ليس هناك أي فرق حقيقي بين حفنة رمل ودماغ أينشتاين. انتهى أمر مؤيدي التفسير المادي للذات إلى فوضى لأنهم يريدون إجابات على أسئلة أكبر مثل "كيف يمكن لأجزاء معينة من المادة أن تشكل فجأة شكلا جديدا لا يماثل هذه المادة؟". إذا كانت الذات لا يمكن أن تفسر ماديا فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: "كيف تكونت؟". إن تاريخ الكون يثبت أن الوعي أو الذات قد نشأ فوريا وأن اللغة قد ظهرت بدون أي سلف تطوري إذن فمن أين جاءت؟ لقد فشل حتى الملحدون الجدد في تفسير طبيعة الذات ومصدرها، لأنه لا يوجد أي تفسير مادي متماسك بما فيه الكفاية ليكون مقنعا. حتى ريتشارد دوكينز يعترف تقريبا بالهزيمة فيما يتعلق بالذات والوعي، ويقول: "نحن لا نعرف نحن لا نفهم ذلك ".
أفضل تفسير لطبيعة ومصدر هذه النفس هو أنها قد جاءت من مصدر مفكر مدرك وواعي. هذه الذات، التي هي كيان ذو قدرة على التفكير والتجربة والخبرة، كيف لها أن تظهر نفسها وتأتي؟ لا يمكن لها أن تأتي من مادة لا واعية وغير قادرة على التفكير والتأمل. ببساطة المادة لا تستطيع إنتاج المفاهيم والتصورات، لذلك نستنتج أن الذات لا يمكن أن يكون لها أساس مادي ولكن يجب أن تأتي من مصدر حي يتجاوز هذا العالم المادي، وأفضل تفسير لهذا هو الله. ليست هناك أي إجابة أخرى تعطي تفسيرا كافيا ومقنعا لهذه الظاهرة.
3. الكون يحتوي على أخلاق موضوعية:
جميعنا يؤمن بأن قتل 6 ملايين من اليهود خلال الحرب العالمية الثانية كانت خطئا من الناحية الأخلاقية، لم تكن خطئا أخلاقيا فحسب بل نعتقد بأنه خطئ أخلاقي من ناحية موضوعية. ما أعنيه بكلمة "موضوعية" هو أنه مثلا: لو تمكن النازيون من اجتياح أوروبا بنجاح وتمكنوا من غسل أدمغة كل الناس لكي يصدقوا بأن تنفيذ الإبادات الجماعية أمر عادي، فإن الأمر سيبقى دائما خطئا أخلاقيا من ناحية موضوعية بغض النظر عن التجربة الإنسانية. بما أن كوننا يحتوي على أخلاق موضوعية فإنه من المنطقي أن يكون الله موجودا، لأن الله مطلوب وجوده كأساس منطقي في موضوعية الأخلاق. فمن دون الله الأخلاق شخصية وغير موضوعية ، وذلك لأن الله هو المفهوم الأساسي الوحيد الذي يتجاوز ويسمو على الذات الشخصية الإنسانية. وبالتالي فإن الكون بأخلاق موضوعية لا معنى له بدون الله. في ضوء ذلك يمكن للمسلم أو المؤمن أن يقول:
1. إذا كان الله غير موجود، فإن القيم الأخلاقية الموضوعية لا وجود لها
2. القيم الأخلاقية الموضوعية موجودة في الكون
3. إذن الله موجود. وسنشرح هذا الاستنتاج.
السؤال حول موضوعية الخير والشر، أو بمعنى آخر الأخلاق الموضوعية، قد ناقشه العديد من فلاسفة الأخلاق. وقد خلص العديد منهم إلى عدم وجود الأخلاق الموضوعية بدون الله، على سبيل المثال: يقول ج.ل. مكي في كتابه "الأخلاق" بأن القيم الأخلاقية الموضوعية غير موجودة. ويقول الفيلسوف ذو النزعة الانسانية بول كورتز: "السؤال المركزي بخصوص المبادئ الأخلاقية والقيمية يتعلق بهذا الأساس الأنطولوجي (المهتم بوجود الله)، لو لم تكن مستمدة من الله ولا من أي أساس خارق يتجاوز واقعنا، فهل هي عابرة وسريعة الزوال؟ "
بول كورتز محق في هذا، فالله هو المفهوم الأساسي الوحيد الذي يتجاوز ويتعالى عن الذات الشخصية الإنسانية، وذلك من دون الله لا يوجد أي أساس منطقي للأخلاق الموضوعية. لتفسير هذا فلنناقش الأسس الفكرية البديلة للأخلاق، لأنه بغياب الله لا يوجد سوى أساسين بديلين:
- الضغط الاجتماعي
- التطور
الضغوط الاجتماعية والتطور الدارويني لا يوفران أي أساس موضوعي للفضيلة والأخلاق لأنها كما يدعيان بأن أخلاقنا تعتمد على التغييرات: البيولوجية والاجتماعية. ولذلك فإن الأخلاق لا تكون ملزمة وصحيحة بغض النظر عن من يؤمن بذلك. لذلك فمن دون الله ليس هناك أي أساس موضوعي للفضيلة والأخلاق. والله كمفهوم ليس شخصيا أو ذاتيا، لذلك فوجود الله كأساس للأخلاق يجعلها ملزمة وموضوعية، وذلك لأن الله يتعدى ذاتية الإنسان. عالم الأخلاق البارز ريتشارد تايلور يستنتج استنتاجا منطقيا في قوله: " الكتاب المعاصرون في الأخلاق، الذين يتناقشون حول الالتزامات الأخلاقية وما هو صحيح وما هو خطأ دون أي إشارة للدين، هم في الواقع ينسجون أنسجة فكرية في فراغ، والتي تظهر للعيان بأنها نقاشات من دون معنى".
بما أن الكون يحوي أخلاق موضوعية، ووجود الله ضروري كأساس فكري للأخلاق الموضوعية ، فإن الكون الذي نعيش فيه يجعل من المنطقي أن يوجد الله.
ملاحظة سريعة حول "الشرور" الدينية
وقبل أن أختم أود تسليط الضوء على الرد على ادعاءات دوكنز الأخرى حول مفهوم الله والحياة الدينية. يبدو بأن دوكنز ينسب كل الأشياء السلبية والشريرة إلى الدين، لكن هناك أدلة قوية تثبت بأن هذه الأمور ليست خاصة بالدين نفسه، ولكن المفهوم المشترك المسيطر هو الإنسانية. ويلخصها كيث وورد، أستاذ الكرسي الملكي السابق في اللاهوت بجامعة أكسفورد، حيث يقول: " من الصعب جدا التفكير في أي نشاط بشري منظم قد يبدو مفسدا ... والملخص هو أن فساد المتدينين وفساد اللامتدينين قد يحصل على حد سواء. ليس هناك أي نظام سحري أو أي معتقد ولا حتى الديمقراطية الليبرالية قد تضمن لنا أن تمنع ذلك الفساد".
لتوضيح هذا اسمحوا لي أن استخدم بعض الأكذوبات القديمة التي تقول " الأديان هي سبب الحرب والصراع" وأبين لكم بأن الحروب والصراعات لا تقتصر على الأديان. ففي التاريخ القصير للعلمانية نرى بأنها ارتكبت المجازر التالية باسم اللادينية وهذه الأيديولوجيات (المذاهب الفكرية) الشيوعية والقومية والداروينية الاجتماعية:
• 70.000.000 أثناء حكم الرئيس ماو
• 20.000.000 في عهد ستالين
• 2.000.000 بسبب بول بوت
• 700.000 من العراقيين الأبرياء في الاحتلال الحالي
• 500.000 طفل عراقي جراء العقوبات في 10 سنوات
لذلك يمكن أن نرى بشكل واضح أعلاه بأن الحرب والصراع ليست حكرا على الدين، بل هي ظاهرة إنسانية سببها الإنسان وليست خاصة بالدين. كما يقول البروفسور ستيفن كارتر في كتابه الأدب: "إن المقولة التي تزعم بأن الحروب قد تم خوضها باسم الله هي مقولة ليست في محلها وغير متناسقة. كما أشار إلى ذلك العالم اللاهوتي وينك والتر بقوله بأنه قد مات أناس في القرن العشرين باسم حروب العلمانية أكثر من أولئك الذين ماتوا في القرون الخمسين الماضية مجتمعة ... لا توجد حرب دينية في التاريخ ألحقت ضررا، ولا حتى تلك الحروب الدينية في التاريخ مجموعة معا، بقدر حروب هذا القرن باسم القومية والايديولوجية ".
الخاتمة
حاولت في هذه المقالة أن أرد على الكتاب الأكثر مبيعا لريتشارد دوكينز "وهم الإله" من خلال الرد على أدلته الأساسية والأدلة التي يعتبرها الفلاسفة أقوى أدلة لديه. ومع ذلك فإن الأفكار مهما كانت صادقة فإنها نادرا ما تقنع الآخرين، وارتأيت بأنه سيكون من الأفضل أن أقول بقول الله تعالى - القرآن الكريم - وأن يكون هو القول الفصل ببلاغة رائعة وأسلوب راق يقول الله تعالى:
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}
وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق